الشرق الاوسط والعالم

أميركا و”أوبك بلس”: في التأنّي السلامة

كتبت راغدة درغام في “النهار”

ينظر الرئيس جو بايدن الى قرار تحالف “أوبك بلس” OPEC+ خفض الإنتاج النفطي مليوني برميل يومياً على أنه صفعة له شخصياً، بالذات على أيدي السعودية، ومساهمة ضد حزبه في الانتخابات النصفية الأميركية، وانتشال لفلاديمير بوتين من أزمة اقتصادية جدّيّة ومن مساعي عزله، بل إسقاط نظامه عقاباً له على حربه الأوكرانية.

ولذلك، يصدر عن الرئيس الأميركي وعن قيادات في الحزب الديموقراطي كلام يتوعّد السعودية بإجراءات غير مسبوقة مصنِّفاً مواقفها عدائية ومهدّداً بإعادة النظر في كامل العلاقات الأميركية – السعودية وسط دعوات في الكونغرس الى تخفيض المبيعات العسكرية وتقليص التعاون الأمني ورفع الحماية من القوانين الأميركية عن السعودية.

هذه المواقف لا تلاقي الإجماع أميركياً، لا سيّما من الحزب الجمهوري الذي يصارع الحزب الديموقراطي في انتخابات فائقة الأهمية قد تكون مصيرية لرئاسة بايدن إذا ما نجح الحزب الجمهوري بالأكثرية في مجلس الشيوخ ومجلس النواب لأن ذلك سيكبّل الرئاسة الديموقراطية. السعودية، من جانبها، تنظر الى الأزمة بأنها مُصطَنعة وراءها سلبية أميركية متأصّلة نحو السعودية، بالذات من طرف الديموقراطيين، معتبرة أن في التهديدات سذاجة وتهوّراً، وأن إلقاء اللوم على “أوبك بلس” محاولة للتملّص من مسؤولية السياسة الأميركية النفطية الداخلية المعنية باستخراج النفط وإنتاجه وتداعياتها، وأن من حق دول الـ”أوبك” اتخاذ قرارات اقتصادية وتجارية تضمن مصالحها الوطنية.

البعد الجغرافي – السياسي لقرار “أوبك بلس” لا يغيب عن أحد، لا في الولايات المتحدة ولا في الصين، وأوروبا معنية مباشرة بإفرازات هذا القرار. ولذلك، من الضروري التعاطي معه ببراغماتية وبنظرة غير تلك التي اعتاد عليها المشرِّعون الأميركيون عند مخاطبتهم الدول العربية، بالذات السعودية. كما من الضروري لدول “أوبك بلس” أن تكون يقِظة وأن تتنبّه الى دقة استراتيجية الدول الغربية نحو روسيا ونحو فلاديمير بوتين لتتجنّب المغامرة برهانات لا حاجة لها بخوضها. فالعلاقات بين الولايات المتحدة وبين دول مثل السعودية تبقى ذات فوائد متبادلة وتحتاج العناية والمعالجة البنّاءة كي لا تقع ضحيّة مزايدات أو قصر نظر.

واضح اليوم أن القيادات الغربية عقدت العزم على إسقاط فلاديمير بوتين ونظامه السياسي، معتبرة أن تغيير النظام في روسيا هو في المصلحة الروسية بعدما تورّط بوتين والجيش الروسي في حربٍ فاشلة في أوكرانيا. التقويم الأميركي هو أن بوتين في زاوية لا يمكن له الخروج منها. حتى وإنْ استمر في تدمير البنية التحتية العسكرية والمدنية في أوكرانيا، لن تسمح الولايات المتحدة وبقية دول حلف شمال الأطلسي بأن يحقق بوتين انتصاراً في أوكرانيا لأن ذلك، في رأيها، تأشيرة بقاء في السلطة للرئيس الروسي وليست تأشيرة الخروج من السلطة التي تريدها القيادات الغربية.

اللافت أن الخوف من استخدام بوتين السلاح التكتيكي النووي ليس عارماً لدى القيادات الغربية، بل إن خطط الرد على مثل هذه الخطوة مدروسة بطريقة تساهم في تعجيل إسقاط نظام بوتين في روسيا. التذمّر الداخلي من أداء الجيش الروسي في حرب أوكرانيا ومن أخطاء بوتين بدأ يتكاثر همساً في “احتجاجات المطابخ” كما يقول الروسي، وإجهاراً بصورة متزايدة. وهذا جزء أساسي من تطلعات القيادات الغربية التي تدرك أن التغيير في موسكو يتطلّب “انتفاضة” روسية بالدرجة الأولى، لكنه أيضاً يحتاج الى بُعد خارجي عنوانه مساعي عزل فلاديمير بوتين في الساحة الدولية.

جزء من غضب الرئيس بايدن من قرار “أوبك بلس” عائد الى استراتيجيته نحو مصير الرئيس الروسي، لا سيّما أنه ناشد شخصياً عدم تخفيض الإنتاج النفطي لأن في ذلك القرار عملية إنقاذ وتأهيل لفلاديمير بوتين في خضمّ عزم “الناتو” على عزله وإخضاعه اقتصادياً من خلال العقوبات.

المصالح الاقتصادية والتجارية وتوافق دول الـ”أوبك” على ضبط أسعار النفط وإعادتها الى المستوى الطبيعي للمنتجين والمستهلكين، لا بد كانت مركزية وحيوية في قرار “أوبك بلس” الذي تنتمي روسيا اليه. إنما، بطبيعة الحال، لم تغِب عن قيادات الدول الأخرى في “أوبك بلس” فوائد التخفيض مليوني برميل يومياً بما يؤدّي الى أسعار عالية تأتي بمثابة هديّة ثمينة لبوتين تفكّ عنه الحصار الاقتصادي وتكسر العزلة المفروضة عليه والتي يريدها الغرب أن تصبح دولية.

ليس في وسع الرئيس الروسي أن يقدّم المقابل للخدمة الكبيرة التي قدّمتها له دول “أوبك” طالما أنه متورّط في حربه الأوكرانية. نفوذه لدى دول مثل إيران مهمّ الى حد كبير لكنه نفوذ يتأرجح على مصيره الشخصي، وبالتالي إن الرهان على مساعدة بوتين في ملفات إقليمية مثل اليمن ليس رهاناً مضموناً، بل إن فيه مجازفة. ثم إن فائدة الرئيس الروسي في المعادلة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة تنسفها، ليس فقط خطط الغرب لعزله، وإنما انهيار عظمة الجيش الروسي حسبما أثبتت التطورات الميدانية في حرب أوكرانيا.

ليس متوقعاً أن تتنازل دول “أوبك” رضوخاً للضغوط الأميركية وأن تتراجع عن قرارها النفطي أو عن رغبتها بألاّ تُستخدَم سلعةً في حرب “الناتو” مع روسيا، ما قد يؤدّي بهذه الدول الى الانحياز بعيداً من روسيا لو استخدم بوتين السلاح النووي التكتيكي. فإذا فعل سيشدّد بنفسه طوق العزل على رقبته.

قمّة دول مجموعة العشرين في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) في بالي، أندونيسيا، ستكون إحدى محطات امتحان سياسة العزل والمقاطعة التي يتبناها الغرب. الرئيس بايدن سيحضر الاجتماع، وكذلك رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي الذي سيكون نجم بالي. سيرفض الرئيس الأميركي لقاء الرئيس الروسي كما سيقاطع القادة الغربيون خطاب بوتين أمام القمّة. الدول الأعضاء في مجموعة العشرين من الشرق الأوسط تركيا والسعودية. روسيا لا تريد الوساطة التركية بينها وبين أوكرانيا. من هنا برز اهتمام دول عربية مثل دولة الإمارات بلعب دور الوسيط خلف الكواليس وفي زيارات علنية.

فالدول الخليجية العربية، بالذات السعودية والإمارات، ترى أن مصلحتها تقتضي تجنّب الالتحاق التلقائي بمعسكر الغرب في الحرب بين “الناتو” وروسيا وتعتقد أن في وسعها التأثير في القيادة الروسية لإثنائِها عن التصلّب وعن خطط التدمير التام للبنى التحتية الأوكرانية وربما اللجوء الى استخدام الأسلحة النووية.

إلا أن المعادلة الحربية قد تجعل من التأثير للاحتواء مسعى شبه مستحيل لأن فلاديمير بوتين لن يستطيع الاستمرار إلاّ إذا كثّف من وحشية وقذارة العمليات العسكرية. فهذه اليوم حرب وليست عمليات عسكرية محدودة، والرئيس الروسي ليس مستعدّاً للخسارة مهما كلّف الأمر.

حلف “الناتو” لا يريد أن يدخل طرفاً مباشراً في الحرب الأوكرانية لكن بعض الدول في الحلف قد تتورّط، لا سيّما إذا اتخذ “الناتو” قرار “التدخل الإنساني” في أوكرانيا على نسق ذلك التدخل في كوسوفو. فإذا تم إرسال “قوات حماية” لمواقع حيوية للبنية التحتية الإنسانية والنووية في أوكرانيا، قد تهاجم القوات الروسية قوات “الناتو” التي تقوم بحماية منشآت نووية. عندئذ، ستضطر قوات “الناتو” الى قصف القوات الروسية الموجودة في الأراضي الجديدة داخل أوكرانيا، وعند ذاك، لعل بوتين يلجأ الى السلاح النووي التكتيكي. فالمعادلة الحربية الميدانية قد تفرض تطورات غير مرتقبة- وكل شيء لا يزال وارداً.

لعل هناك فسحة أسبوعين الى ما بعد الانتخابات النصفية الأميركية وقمّة العشرين في أندونيسيا، لكن لا أحد يعرف في زمن التوتّر العالمي والقصف الروسي العنيف في أوكرانيا.

هذا التوتّر يجب ألا يعمي الأبصار عن ضرورة التأنّي في ردود الفعل كما في التوقعات بالذات في الأوساط الرسمية الأميركية. ما تحتاجه المرحلة ليس الاستعلاء والفرض والتهديد والعقاب لدول اتخذت قراراتها على أساس مصالحها. فللدول الأخرى أيضاً الحق في أن تضع مصالحها الوطنية في حساباتها وعلاقاتها وتموضعها ولا يجوز تصنيفها بعشوائية في خانة الدول العدائية.

السياسات النفطية الأميركية تستدعي التساؤلات المنطقية لجهة لماذا تتوقع الولايات المتحدة من الآخرين التضحية بمصالحها خدمة للأولويات الأميركية.

على الصعيد الجغرافي – السياسي، العالم لا يزال منقسِماً تجاه القرارات الغربية نحو روسيا مع أن الأكثرية الساحقة، بما فيها دول من “أوبك بلس”، دانت الغزو الروسي لأوكرانيا وإجراءات الاحتلال. أبرز ما ينقسم حوله كثير من دول العالم هو عزم الغرب على إطاحة فلاديمير بوتين ونظامه، ليس حبّاً له ولا دعماً لنظامه وسياساته، وإنما اعتراضاً على الاندفاع الغربي لتغيير النظام، طبقاً للأجندات والمصالح الغربية، وعلى أساس انتقائي بامتياز.

زر الذهاب إلى الأعلى